بشار (الجزائر): شبوب أبو طالب
حيثما تجولتَ في مدينة بشار، فإن الأسطورة ستظل رفيقك الدائم، منطقة قد لا تكفي سنة لزيارتها، ولكن تكفي لحظة واحدة لتمنحك الإحساسَ بأن سبعة عوالم كاملة تعيش داخلها.. ولكل عالم زمنه الخاص! تعتبر بشار عاصمة للجنوب الغربي الجزائري، ولا يفصلها عن العاصمة الجزائرية سوى ساعة ونصف من الطيران أي 950 كليومترا. بشار عبارة عن سهل هائل يمتد على مساحة 5000 آلاف كيلومتر مربع وتحيط به جبال ثلاثة؛ هي عنتر وقرزاز وبشار، ورغم وقوع المنطقة في الناحية الصحراوية للجزائر، فإن معدل الأمطار يقترب من 100 مليمتر سنويا، وهو معدل مرتفع للغاية، مما يبرر اخضرار بشار ووفرة الأشجار فيها.
تتكون بشار من سبع مدن، هي بشار القديم، بشار الجديد، العبادلة، بني عباس، قرزاز، غار الذئبة وتابلبالة، بالإضافة إلى عشرات القصور التاريخية المنتشرة هنا وهناك، والتي تمنح المكان بُعدا أسطوريا يحيل إلى تاريخ ضارب في العراقة ولكنه غير مكتوب.
وتبدو العراقة ماثلة في الحفريات التي يمتد عمر بعضها لأكثر من 25 قرنا، ولكن الثقافة الشفوية المسيطرة في المنطقة حولت التاريخ إلى حكايات يصعب فيها فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب بالأصح التصديق بأن كل ذلك الجمال حقيقي لا مفتعل.
تمتاز بشار بالتنوع الكبير في مناظرها، إذ توفر لهواة الصحراء فضاءات لا نهائية لممارسة كافة رغباتهم من رحلات السفاري إلى صيد الطيور والغزلان، كما توفر لعشاق التزلج على الرمال كثبانا رملية يزيد متوسط ارتفاعها عن الـ1300 متر، مما يجعلها موقعا مثاليا للتزلج، كما توفر المدينة لمحبي السباحة النهرية العديد من الأنهار والبرك، أما لمن يبحث عن الغرائب، فإن قصة المدن السبع هي أفضل أسطورة يمكن أن يلمسها بيده في تلك الناحية.
فقد كانت بشار طوال تاريخها منطقة خضراء وسط بحر من الرمل يفصل شمال القارة الأفريقية عن وسطها، مما ضمن لها ازدهارا دائما، كما أن احتماءها ببحر الرمل جعلها أفضل مستقر يؤوي إليه الهاربون من العسف السياسي والخائفون على أنفسهم وأفكارهم، ولعل التمازح بين الصنفين أكد حقيقة غريبة، هي أن تاريخ بشار قد صنعه الضيوف والغرباء.
فمن أبرز الشواهد على ما صنعه الغرباء تلك القصور المنتشرة حيثما توفر نبع ماء، فنظرا لاتساع المنطقة فقد جرت العادة أن يبني كل قادم جديد قصرا بالطوب المحلي، ويمارس داخله ما شاء من أفكار وتقاليد، يحدث هذا وسط تسامح كبير من سكان المنطقة الذين يتسمون بانفتاح غير عادي، وقد حدث هذا مع قصور «زاوية سيدي محمد» التي بناها المصلح الديني محمد بن موسى وعاش فيها مع أتباعه عيشة أقرب للغرابة، كما حدث مع قصر «غار الذئبة» الذي بناه أفراد قبيلة يَُسمون بأبناء الحسين وجعلوه قريبا من مغارة تشتهر بنقوشها الحجرية التي تمثل غزلانا وذئابا، كما حدث هذا أيضا مع قصر الأضرحة السبعة، وهي عبارة عن سبعة أضرحة عملاقة لا يعرف أحد لها تاريخا، ولكن جيرانها يقولون إنها هبطت من السماء ذات يوم مع مطلع الفجر، ورغم أن عمرها يزيد على القرون الثلاثة فلا زالت لغزا غير قابل للفهم.. بل إن الجيران لا يعلمون حتى شخصيات من بداخلها! ونفس الشيء مع قصر «سيدي عثمان» الذي تقول أسطورته إنه قدم من مصر مع نفر من أتباعه، وكان شيخا هرما، فلما أخذته سكرة الموت غرس عصاه في الأرض طالبا ألا تنزعَ حتى يفارق الحياة، وهكذا كان، فما إن صعدت روحه حتى انتزعت العصا وتفجر من أسفلها نبع ماء ما زال حاملا لاسم «سيدي عثمان» منذ أكثر من قرن غفل الراوي عن عدها.
وأينما تجولت في المدن السبع لبشار، فلن تجد سوى الأسطورة، إنه بلد بنته الأساطير ونسجته الحكايا، ولعل ذلك راجع لتقاليد السمر الليلي، وهي جلسات مطولة يحتضن الشاي فيها الحكايا ولا تصفو إلا برغد العيش، عنصر مكفول جدا في بشار فالزراعة متطورة جدا والغلات الفلاحية تتراوح بين التمر والطماطم مرورا بالقمح والتفاح مما يجعل المائدة البشارية غنية للغاية، فهناك «الكليلة» وهي وجبة باردة عمادها الحليب المجفف الممزوج بنباتات محلية، وتصلح كمقبل لذيذ لوجبة دسمة تتراوح بين «الحريرة» و«الترفاس باللحم»، فـ«الحريرة» هي أول أطباق المنطقة المغاربية ككل، وهي عبارة عن قمح خاص يطحن بعناية ويضاف له السمن والأعشاب الطبية والطماطم وبعض الخضروات المطحونة بعناية، ما يفيد في إعطاء «طلقة تمهيدية» فاتحة للمعدة بانتظار الوجبة الثانية التي تختلف بين الليل والنهار، ففي النهار هناك «الترفاس باللحم» وهي وجبة تعد بواسطة «الترفاس» وهو نبات فطري محلي لا يزرع بل يتوافر في الطبيعة عقب كل موسم أمطار، وطعمه لذيذ للغاية لحد أن ثمن الكيلوغرام منه 10 دولارات. ويحضر «الترفاس» بعد تقطيعه إلى أطراف صغيرة تضاف لها كميات متوسطة من اللحم ويطبخ الكل في حساء من الخضروات، ومن شأن خليط كهذا ان يولد طاقة مضاعفة تساعد على العمل، على عكس «الكسكس» وهو الوجبة الرئيسية في منطقة المغرب العربي والتي يفضل البعض تناولها ليلا، وهي غنية عن التعريف، أما أنواع الخبز المحلي فتتراوح بين «المسمَّن» وهو خبز من طبقة واحدة يخلط بالسمن البلدي والعسل، و«الخبز» وهو شبيه بخبز الفرن الإفرنجي، ولا يختلف عنه إلا في مادة الإعداد.
كما أن كثبان بشار الرملية توفر لك متكأً يذهب بك بعيدا في الزمن يطارد فيه خيالك آلاف الأساطير المزروعة في كل ركن من المنطقة، هذا إن كنت من هواة التخييم الطبيعي، أما إن أردت الفنادق فهناك أكثر من 10 فنادق جميلة ينطلق يبدأ سعر غرفها من 25 دولارا وتنتهي غير بعيد عن 150 دولارا. وتوفر هذه الفنادق إلى جانب إمكانات الإقامة الجميلة فرصا ذهبية للاختلاط بالناس وحتى مشاركتهم رقصة «الهوبي» وهي نظير «العرضة» السعودية إلا أنها تؤدَّى بالبنادق لا السيوف.